فصل: تفسير الآيات (123- 124):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (122):

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} قرأ نافع {ميِّتا} و{لحم أخيه ميِّتا} [الحجرات، 12] و{الأرض الميتة أحييناها} [سورة يس، 33] بالتشديد فيهن، والآخرون بالتخفيف {فَأَحْيَيْنَاهُ} أي: كان ضالا فهديناه، كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} يستضيء به، {يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} على قصد السبيل، قيل: النور هو الإسلام، لقوله تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة، 257]، وقال قتادة: هو كتاب الله بينة من الله مع المؤمن، بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} المثل صلة، أي: كمن هو في الظلمات، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} يعني: من ظلمة الكفر.
قيل: نزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما، ثم اختلفوا فيهما، قال ابن عباس: جعلنا له نورا، يريد حمزة بن عبد المطلب، كمن مثله في الظلمات يريد أبا جهل بن هشام، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، وحمزة لم يؤمن بعد، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه، ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الضحاك: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل.
وقال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل.
{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعصية، قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام.

.تفسير الآيات (123- 124):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} أي: كما أن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها، أي: عظماءها، جمع أكبر، مثل أفضل وأفاضل، وأسود وأساود، وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم، كما قال في قصة نوح عليه السلام: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} [الشعراء، 111]، وجعل فساقهم أكابرهم، {لِيَمْكُرُوا فِيهَا} وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، يقولون لكل من يقدم: إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ} لأن وبال مكرهم يعود عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أنه كذلك.
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} يعني: مثل ما أوتي رسل الله من النبوة، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ} حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: يعني أبا جهل، {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قرأ ابن كثير وحفص رسالته على التوحيد، وقرأ الآخرون رسالاته بالجمع، يعني: الله أعلم بمن هو أحق بالرسالة. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ} ذل وهوان {عِنْدِ اللَّهِ} أي: من عند الله، {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} قيل: صغار في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة.

.تفسير الآية رقم (125):

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)}
قوله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} أي: يفتح قلبه وينوره حتى يقبل الإسلام، ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر، فقال: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح»، قيل: فهل لذلك أمارة؟ قال: «نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا} قرأ ابن كثير {ضيقا} بالتخفيف هاهنا وفي الفرقان، والباقون بالتشديد، وهما لغتان مثل: هَيْن وهيِّن ولين ولين، {حَرَجًا} قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء والباقون بفتحها، وهما لغتان أيضا مثل: الدنف والدنف، وقال سيبويه الحرج بالفتح: المصدر كالطلب، ومعناه ذا حرج وبالكسر الاسم، وهو أشد الضيق، يعني: يجعل قلبه ضيقا حتى لا يدخله الإيمان، وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيئا من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية، فسأل أعرابيا من كنانة: ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قرأ ابن كثير: {يصعد}، بالتخفيف، وقرأ أبو بكر عن عاصم {يصاعد} بالألف، أي يتصاعد، وقرأ الآخرون {يصّعّد} بتشديد الصاد والعين، أي: يتصعد، يعني: يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء، وأصل الصعود المشقة، ومنه قوله تعالى: {سأرهقه صعودا} أي: عقبة شاقة، {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: الرجس هو الشيطان، أي: يسلط عليه، وقال الكلبي: هو المأثم، وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وقال عطاء: الرجس العذاب مثل الرجس. وقيل: هو النجس. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الرجس والنجس». وقال الزجاج: الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

.تفسير الآيات (126- 128):

{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
قوله عز وجل: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} أي: هذا الذي بيّنا، وقيل هذا الذي أنت عليه يا محمد طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام. {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني: الجنة: قال أكثر المفسرين: السلام هو الله وداره الجنة، وقيل: السلام هو السلامة، أي: لهم دار السلامة من الآفات، وهي الجنة. وسميت دار السلام لأن كل من دخلها سَلِمَ من البلايا والرزايا.
وقيل: سميت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، يقال في الابتداء: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر، 46]، {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} [الرعد، 23]، وقال: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} [الواقعة، 26]، وقال: {تحيتهم فيها سلام} [إبراهيم، 23] {سلام قولا من رب رحيم} [يس، 58]. {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال الحسين بن الفضل: يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قرأ حفص: {يَحْشُرُهُمْ} بالياء، {جَمِيعًا} يعني: الجن والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} والمراد بالجن: الشياطين، {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ} أي: استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء أي: أضللتم كثيرا، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ} يعني: أولياء الشياطين الذي أطاعوهم من الإنس، {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}.
قال الكلبي: استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قَفْرٍ وخاف على نفسه من الجن قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم.
وأما استمتاع الجن بالإنس: هو أنهم قالوا قد سدنا الإنس مع الجن، حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم، وهذا كقوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} [الجن، 6].
وقيل: استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يُلْقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها، وتسهيل سبيلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي.
قال محمد بن كعب: هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم لبعض.
{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني: القيامة والبعث، {قَالَ} اللَّهِ تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} مقامكم، {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ}.
اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} [هود، 107].
قيل: أراد إلا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم، يعني: هم خالدون في النار إلا هذا المقدار.
وقيل: الاستثناء يرجع إلى العذاب، وهو قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي: خالدين في النار سوى ما شاء الله من أنواع العذاب.
وقال ابن عباس: الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار، وما بمعنى من على هذا التأويل، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قيل: عليم بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى.

.تفسير الآيات (129- 130):

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قيل: أي كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض نولي بعض الظالمين بعضا، أي: نسلط بعضهم على بعض، فنأخذ من الظالم بالظالم، كما جاء: «من أعان ظالما سلطه الله عليه».
وقال قتادة: نجعل بعضهم أولياء بعض، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان والكافر ولي الكافر حيث كان. وروي عن معمر عن قتادة: نتبع بعضهم بعضا في النار، من الموالاة، وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن، ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس، أي: نكل بعضهم إلى بعض، كقوله تعالى: {نوله ما تولى} [النساء، 115]، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها هو: أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم.
قوله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} اختلفوا في أن الجن هل أرسل إليهم منهم رسول؟ فسئل الضحاك عنه، فقال: بلى ألم تسمع الله يقول {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} يعني: بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن. قال الكلبي: كانت الرسل من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن وإلى الإنس جميعا.
قال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، ثم قرأ {ولوا إلى قومهم منذرين} [الأحقاف، 29]، وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا، وليس للجن رسل، فعلى هذا قوله: {رسل منكم} ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس، كما قال تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن، 22] وإنما يخرج من الملح دون العذب، قال: {وجعل القمر فيهن نورا} [نوح، 16]، وإنما هو في سماء واحدة.
{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} أي: يقرؤن عليكم، {آيَاتِي} كتبي {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وهو يوم القيامة، {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أنهم قد بلغوا، قال مقاتل: وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر. قال الله عز وجل: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} حتى لم يؤمنوا، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.

.تفسير الآيات (131- 134):

{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}
{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وعذاب من كذبهم، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لم يكن مهلكهم بظلم أي: بشرك من أشرك، {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} لم ينذروا حتى يبعث إليهم رسلا ينذرونهم.
وقال الكلبي: لم يهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل.
وقيل: معناه لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل فيكون قد ظلمهم، وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحدا إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنبا إذا أمر فلم يأتمر ونهي فلم ينته، يكون ذلك بعد إنذار الرسل.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} يعني في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من هو أشد عذابا ومنهم من هو أجزل ثوابا، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأ ابن عامر تعملون بالتاء والباقون بالياء.
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} عن خلقه، {ذُو الرَّحْمَةِ} قال ابن عباس: ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته، وقال الكلبي: بخلقه ذو التجاوز، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يهلككم، وعيد لأهل مكة، {وَيَسْتَخْلِفْ} يخلق وينشئ، {مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} خلقا غيركم أمثل وأطوع، {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أي: آبائهم الماضين قرنا بعد قرن.
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} أي: ما توعدون من مجيء الساعة والحشر، {لآتٍ} كائن، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين، يعني: يدرككم الموت حيث ما كنتم.